الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

من قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب


استمع
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه - التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
مطر ..
مطر ..

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

قصيدة الأصمعي صوت صفير البلبل


صوت صفير البلبل
قال الراوي: إن أبا جعفر المنصور كان يحفظ الشعر عند سماعه من مرة واحدة، وله مملوك يحفظه من مرتين ، له جارية تحفظه من ثلاث مرات ، وكان بخيلاً جداً حتى إنه كان يلقب بالدوانيقي لأنه كان يحاسب على الدوانيق ، فكان إذا جاء شاعر بقصيدة قال له : إن كان أتى بها أحد قبلك، فلا نعطيك لها جائزة ، وإن لم يكن أحد يحفظها نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه ، فيقرأ الشاعر القصيدة فيحفظها الخليفة من أول مرة ، ولو كانت ألف بيت ، ويقول للشاعر اسمعها مني وينشدها بكمالها ، ثم يقول له : هذا المملوك يحفظها ، وقد سمعها المملوك مرتين ، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة فيقرؤها ، ثم يقول الخليفة : وهذه الجارية التي خلف الستارة تحفظها أيضاً وقد سمعتها الجارية ثلاث مرات فتقرؤها بحروفها فيذهب الشاعر بغير شيء .
قال الراوي : وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه فنظم أبياتاً صعبة وكتبها على قطعة عمود من رخام ولفها في عباءة وجعلها على ظهر بعير وغير حليته في صفة أعرابي غريب وضرب له لثاماً ولم يبين منه غير عينيه ، وجاء إلى الخليفة وقال : إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة . فقال : يا أخا العرب إن كانت لغيرك لا نعطيك عليها جائزة وإلا نعطيك زنة ما هي مكتوبة عليه . فأنشد الأصمعي هذه القصيدة : صوت صفير البلبل

صَوْتُ صَفِيْرِ البُلْبُلِ ... هَيَّجَ قَلْبِيَ الثَمِلِ
المَاءُ وَالزَّهْرُ مَعَاً ... مَعَ زَهرِ لَحْظِ المُقَلِ
وَأَنْتَ يَاسَيِّدَ لِي ...وَسَيِّدِي وَمَوْلَى لِي
فَكَمْ فَكَمْ تَيَّمَنِي ...غُزَيِّلٌ عَقَيْقَلي
قَطَّفْتُ مِنْ وَجْنَتِهِ ...مِنْ لَثْمِ وَرْدِ الخَجَلِ
فَقَالَ بَسْ بَسْبَسْتَنِي ...فَلَمْ يَجّدُ بالقُبَلِ
فَقَالَ لاَ لاَ لاَ لاَ لاَ ...وَقَدْ غَدَا مُهَرْولِ
وَالخُودُ مَالَتْ طَرَبَاً ...مِنْ فِعْلِ هَذَا الرَّجُلِ
فَوَلْوَلَتْ وَوَلْوَلَتُ ...وَلي وَلي يَاوَيْلَ لِي
فَقُلْتُ لا تُوَلْوِلِي ...وَبَيِّنِي اللُؤْلُؤَلَي
لَمَّا رَأَتْهُ أَشْمَطَا ...يُرِيدُ غَيْرَ القُبَلِ
وَبَعْدَهُ لاَيَكْتَفِي ...إلاَّ بِطِيْبِ الوَصْلَ لِي
قَالَتْ لَهُ حِيْنَ كَذَا ...انْهَضْ وَجِدْ بِالنَّقَلِ
وَفِتْيَةٍ سَقَوْنَنِي ...قَهْوَةً كَالعَسَلَ لِي
شَمَمْتُهَا بِأَنْفِي ...أَزْكَى مِنَ القَرَنْفُلِ
فِي وَسْطِ بُسْتَانٍ حُلِي ...بالزَّهْرِ وَالسُرُورُ لِي
وَالعُودُ دَنْ دَنْدَنَ لِي ...وَالطَّبْلُ طَبْ طَبَّلَ لِي
وَالسَّقْفُ قَدْ سَقْسَقَ لِي ...وَالرَّقْصُ قَدْ طَبْطَبَ لِي
شَوَى شَوَى وَشَاهِشُ ...عَلَى وَرَقْ سِفَرجَلِ
وَغَرَّدَ القِمْرِ يَصِيحُ ...مِنْ مَلَلٍ فِي مَلَلِ
فَلَوْ تَرَانِي رَاكِباً ...عَلَى حِمَارٍ أَهْزَلِ
يَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ ...كَمَشْيَةِ العَرَنْجِلِ
وَالنَّاسُ تَرْجِمْ جَمَلِي ...فِي السُوقِ بالقُلْقُلَلِ
وَالكُلُّ كَعْكَعْ كَعِكَعْ ...خَلْفِي وَمِنْ حُوَيْلَلِي
لكِنْ مَشَيتُ هَارِبا ...مِنْ خَشْيَةِ العَقَنْقِلِي
إِلَى لِقَاءِ مَلِكٍ ...مُعَظَّمٍ مُبَجَّلِ
يَأْمُرُلِي بِخَلْعَةٍ ...حَمْرَاءْ كَالدَّمْ دَمَلِي
أَجُرُّ فِيهَا مَاشِياً ...مُبَغْدِدَاً للذِّيَّلِ
أَنَا الأَدِيْبُ الأَلْمَعِي ...مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوْصِلِ
نَظِمْتُ قِطعاً زُخْرِفَتْ ...يَعْجِزُ عَنْهَا الأَدْبُ لِي
أَقُوْلُ فِي مَطْلَعِهَا ...صَوْتُ صَفيرِ البُلْبُلِ
قال الراوي : فلم يحفظها الملك لصعوبتها ، ونظر إلى المملوك وإلى الجارية فلم يحفظها أحد منهما فقال : يا أخا العرب هات الذي هي مكتوبة فيه نعطك زنته ذهباً. فقال : يا مولاي إني لم أجد ورقاً أكتب فيه وكان عندي قطعة عمود رخام من عهد أبي ، وهي ملقاةٌ ليس لي بها حاجة ، فنقشتها فيها . فلم يسع الخليفة إلا أنه أعطاه وزنها ذهباً فنفد ما في خزينته من المال ، فأخذه وانصرف.
فلما ولى قال الخليفة : يغلب على ظني أن هذا الأصمعي ، فأحضره وكشف عن وجهه . فإذا هو الأصمعي فتعجب منه ومن صنيعه وأجازه على عادته ، قال : يا أمير المؤمنين ، إن الشعراء فقراء وأصحاب عيال وأنت تمنعهم العطاء بشدة حفظك وحفظ هذا المملوك وهذه الجارية . فإذا أعطيتهم ما تيسر ليستعينوا به على عيالهم لم يضرك.



الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

من شعر أمل دنقل (الوصايا العشر)



لا تصالح ....!! 
مقتل كليب (الوصايا العشر)  

.. فنظر "كليب" حواليه وتحسَّر، وذرف دمعة وتعبَّر، ورأى عبدًا واقفًا فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير؛ لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي..

فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه.. فغمس "كليب" إصبعه في الدم، وخطَّ على البلاطة وأنشأ يقول ..

(1)

لا تصالحْ !

.. ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك،

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟

هي أشياء لا تشترى..:

ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،

حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،

هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،

الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..

وكأنكما

ما تزالان طفلين!

تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:

أنَّ سيفانِ سيفَكَ..

صوتانِ صوتَكَ

أنك إن متَّ:

للبيت ربٌّ

وللطفل أبْ

هل يصير دمي - بين عينيك - ماءً ؟

أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..

تلبس - فوق دمائي - ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب ؟

إنها الحربُ !

قد تثقل القلبَ ..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالحْ ..

ولا تتوخَّ الهرب !


(2)

لا تصالح على الدم .. حتى بدم !

لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك ؟!

أعيناه عينا أخيك ؟!

وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك ؟

سيقولون :

جئناك كي تحقن الدم ..

جئناك . كن - يا أمير - الحكم

سيقولون :

ها نحن أبناء عم.

قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

إنني كنت لك

فارسًا،

وأخًا،

وأبًا،

ومَلِك!


(3)

لا تصالح ..

ولو حرمتك الرقاد

صرخاتُ الندامة

وتذكَّر ..

(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)

أن بنتَ أخيك "اليمامة"

زهرةٌ تتسربل - في سنوات الصبا -

بثياب الحداد

كنتُ، إن عدتُ:

تعدو على دَرَجِ القصر،

تمسك ساقيَّ عند نزولي..

فأرفعها - وهي ضاحكةٌ -

فوق ظهر الجواد

ها هي الآن .. صامتةٌ

حرمتها يدُ الغدر:

من كلمات أبيها،

ارتداءِ الثياب الجديدةِ

من أن يكون لها - ذات يوم - أخٌ !

من أبٍ يتبسَّم في عرسها ..

وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها ..

وإذا زارها .. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،

لينالوا الهدايا..

ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)

ويشدُّوا العمامة ..

لا تصالح!

فما ذنب تلك اليمامة

لترى العشَّ محترقًا .. فجأةً ،

وهي تجلس فوق الرماد ؟!


(4)

لا تصالح

ولو توَّجوك بتاج الإمارة

كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ ..؟

وكيف تصير المليكَ ..

على أوجهِ البهجة المستعارة ؟

كيف تنظر في يد من صافحوك..

فلا تبصر الدم..

في كل كف ؟

إن سهمًا أتاني من الخلف..

سوف يجيئك من ألف خلف

فالدم - الآن - صار وسامًا وشارة

لا تصالح ،

ولو توَّجوك بتاج الإمارة

إن عرشَك : سيفٌ

وسيفك : زيفٌ

إذا لم تزنْ - بذؤابته - لحظاتِ الشرف

واستطبت - الترف

(5)

لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدامْ

" .. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."

عندما يملأ الحق قلبك:

تندلع النار إن تتنفَّسْ

ولسانُ الخيانة يخرس

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس ؟

كيف تنظر في عيني امرأة ..

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

كيف تصبح فارسها في الغرام ؟

كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام

- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام

وهو يكبر - بين يديك - بقلب مُنكَّس ؟

لا تصالح

ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام

وارْوِ قلبك بالدم..

واروِ التراب المقدَّس ..

واروِ أسلافَكَ الراقدين ..

إلى أن تردَّ عليك العظام !


(6)

لا تصالح

ولو ناشدتك القبيلة

باسم حزن "الجليلة"

أن تسوق الدهاءَ

وتُبدي - لمن قصدوك - القبول

سيقولون :

ها أنت تطلب ثأرًا يطول

فخذ - الآن - ما تستطيع :

قليلاً من الحق ..

في هذه السنوات القليلة

إنه ليس ثأرك وحدك،

لكنه ثأر جيلٍ فجيل

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،

يوقد النار شاملةً،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ،

من أَضْلُع المستحيل

لا تصالح

ولو قيل إن التصالح حيلة

إنه الثأرُ

تبهتُ شعلته في الضلوع..

إذا ما توالت عليها الفصول..

ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)

فوق الجباهِ الذليلة !

(7)

لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم

ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..

كنت أغفر لو أنني متُّ..

ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ .

لم أكن غازيًا ،

لم أكن أتسلل قرب مضاربهم

أو أحوم وراء التخوم

لم أمد يدًا لثمار الكروم

أرض بستانِهم لم أطأ

لم يصح قاتلي بي: "انتبه" !

كان يمشي معي..

ثم صافحني..

ثم سار قليلاً

ولكنه في الغصون اختبأ !

فجأةً:

ثقبتني قشعريرة بين ضعلين..

واهتزَّ قلبي - كفقاعة - وانفثأ !

وتحاملتُ ، حتى احتملت على ساعديَّ

فرأيتُ : ابن عمي الزنيم

واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم

لم يكن في يدي حربةٌ

أو سلاح قديم،

لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ

(8)

لا تصالحُ ..

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم.. لميقاتها

والطيور.. لأصواتها

والرمال.. لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة

كل شيء تحطم في لحظة عابرة:

الصبا - بهجة الأهل - صوتُ الحصان - التعرف بالضيف

-         همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي

-         الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي

- مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة

كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة

والذي اغتالني: ليس ربًّا

ليقتلني بمشيئته

ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته

ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة

لا تصالحْ

فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ ..

(في شرف القلب)

لا تُنتقَصْ

والذي اغتالني مَحضُ لصْ

سرق الأرض من بين عينيَّ

والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة !


 (9)

لا تصالح

ولو وَقَفَت ضد سيفك كلُّ الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد

وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم،

وسيوفهم العربية، قد نسيتْ سنوات الشموخ

لا تصالح

فليس سوى أن تريد

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد

وسواك .. المسوخ !

لا تصالحْ ...

لا تصالحْ ...