الأحد، 26 مارس 2017

وصية أبي تمام للبحتري

حكت الثقات عن أبي عبادة البحتري الشاعر قال: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب، حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات، إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفًا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء، وسكنت الغماغم/الأصوات، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم.
وإذا شرعت في التأليف تغن بالشعر، فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رشيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، والتعلل باستنشاق النسائم، وغناء الحمائم، والبروق اللامعة، والنجوم الطالعة، والتبرم من العذال، والوقوف على الأطلال.

وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأرهب من عزائمه ورغب في مكارمه. واحذر المجهول من المعاني، إياك أن تشين شعرك بالعبارة الردية والألفاظ الوحشية، وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، ولا تنظم إلا بشهوة فإن الشهوة نعم المعين على حسن النظم، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما استقبحوه فاجتنبه.
Comments
0 Comments

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك