د. محمود النوبي أحمد
- أستاذ الأدب العربي والنقد الأدبي، وكيل كلية الألسن جامعة الأقصر.
ما يحدث الآن من نشرات وإحصاءات وتحذيرات من وباء
كورونا (كوفيد-19) ذكّرني ببحث أعددته عن تأثر الشعر بواحد من الأوبئة الخطيرة
التي حدثت في العصور الوسطى (الوباء الكبير أو الموت الأسود) وأصابت العالم بأثره،
ولم تقتصر العدوى في هذا الوباء القديم على البشر فقط بل أصابت الحيوانات والطيور
حتى السمك في الماء؛ فمات منه معظم خلق الله على الأرض.
فقلت في نفسي: إذا كان ذلك كذلك فيُعد وباء كورونا
(كوفيد-19) الذي أزعج العالم هيناً إذا تم قياسه بالوباء الكبير الذي حدث في
العصور الوسطى، وإليكم المقدمة النظرية لبحثي، وقد أوردت فيها بعض ما جاء في كتب
التاريخ لوصف ذلك الوباء المميت:
(الوباء الكبير أو الفناء الكبير،
اسم يطلق على طاعون سنة 749هـ 1348م، الذي اجتاح الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ فكان مقدمة
لتناقص أعداد السكان في الشرق الأدنى وفي أوربا على حد سواء، وقد عرف المسلمون هذا
الوباء الشامل باسم (الفناء الكبير)، على حين عرفه الغرب الأوربي باسم (الموت
الأسود Black
Death )().
وقد عمَّ هذا الوباء جميع أجناس البشر وغيرهم
من دواب الأرض، حتى حيتان البحر، وطير السماء ووحش البر، وحكى المقريزي كثيراً عن
البلاد التي انتشر فيها، في آسيا وأوربا وأفريقية، فضلاً عن جزر البحر المتوسط،
وروى أنه كان يموت بالقاهرة ومصر في اليوم الواحد بسبب ذلك الوباء ما بين عشرة
آلاف وعشرين ألفاً، وأنَّ الفلاحين بأسرهم ماتوا، فلم يوجد من يضُم الزرع، وأنَّ
المواشي هلكت، ومات صيادو السمك في دمياط، وهم في سفنهم والشباك بأيديهم مملوءة
سمكا ميتا، وهكذا أقفر الريف من الزرَّاع، وأقفرت المدن من سكانها؛ فتوقف بذلك
النشاط العمراني، وتعطلت الصنائع، وعم الأحياء الحزن والألم والهم...()
ومما ورد من إحصاءات لمن مات في القاهرة
وحدها، فقال ابن تغري بردي: "وحصرت
عدّة من صُلّي عليه بالمصلّيات التي خارج باب النصر وباب زويلة وباب المحروق وتحت
القلعة، ومصلّى قتّال السبع تجاه باب جامع قوصون فى يومين، فبلغت ثلاث عشرة ألفا
وثمانمائة، سوى من مات فى الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر وعلى الدكاكين وفى
الحسينية وجامع ابن طولون، ومن يتأخر دفنه فى البيوت...
وهم أضعاف ذلك"، حتى قالوا إنّ عِدّة الأموات في يوم واحد قد بلغت عشرين
ألفاً، وقد ضبط في شهر شعبان ورمضان، فبلغ عدة من مات فيهما من الناس، فكان نحو
تسعمائة ألف إنسان. ووصف المؤرخون شوارع القاهرة بعد هذا الوباء، وما حدث بها من
فناء، فقالوا: فما أهلَّ ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة، لا يوجد بشوارعها
مارٌّ، بحيث إنه يمرُّ الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يرى من يُزاحمه،
وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح...()
وقد وصف الشعراء ذلك الوباء ليكون شعرهم
بمثابة وثيقة تاريخية مؤكدة للأحداث فقال ابن الوردي([4]):
إســـكندريةُ
ذا الوَبا سَبـعٌ يمدُّ إليكِ ضَبعهْ()
صَـبراً
لقسْـمَتك التي تَركتْ مِن السبعين
سَبعهْ()
أما عن انتقال
العدوى فقالوا إنها كانت تنتقل عن طريق الهواء؛ فلذلك إذا أُصيبَ أحدٌ في بيت
تبِعه أهل البيت جميعاً واحداً بعد واحدٍ، حتى يفنوا جميعاً بعد ليلة أو ليلتين().
وشعراً وصف الصفدي سرعة الإصابة بالطاعون،
فقال([8]):
قد نغَّصَ الطاعونُ عيشَ
الورَى وأذهلَ الوالدَ والوالِـدهْ
كم منزلٍ كالشَّـمعِ
سُـــكَّانُهُ أطفأهُم في نَفْخةٍ
واحدهْ
صورة معبرة، سكان البيت مثل مجموعة من الشموع،
أطفأهم الوباء بقوته في نفخة واحدة، ويؤكد هذا المعنى الصفدي أيضاً في قوله:
مُصيبةُ الطَّاعون قد أصبحتْ لم يخلُ منها في الورَى بُقْعهْ
يَدخُلُ في المنزلِ لو
أنَّــهُ مدينـةٌ أخْلاه في جُمْعــهْ
ولو تتبعت ما وصِفَ به هذا الوباء في كتب
التاريخ ما وفيتُ، ومما يختصر القول في ذلك عبارة لابن تغري بردي عن حال الناس في
مصر، وقد ماتوا عن أموالهم وضياعهم وأراضيهم وأمتعتهم، فقال: "وإذا ورث إنسان
شيئاً انتقل في يوم واحد لرابع وخامس" فهو تعبير يدل على كثرة الموت، وانتقال
الميراث سريعاً بين الورثة فكل وريث يموت في اليوم نفسه ليرثه آخر بعده،
"وأخذ كثير من الناس دوراً وأموالاً بغير استحقاق لموت مستحقيها"، ولهول
ما ورد فيه، شَعَرَ بعض المؤرخين بالتقصير في الإخبار، فقال ابن تغري بردي بعدما
حكى عن فجائع ذلك الوباء صفحات طويلة: "... ورأيت أنا من رأى هذا الوباء،
فكانوا يسمونه الفصل الكبير، ويسمونه أيضا بسنة الفناء، ويتحاكون عنه أضعاف ما
حكيناه"().
فهذه الأخبار وغيرها تدل على هول الحدث على
الخاصة والعامة، الأغنياء والفقراء، حتى كبار رجال الدولة والحكام،
سلموا أمورهم إلى الله وحاول كل منهم التوجه إليه بإكرام الرعية والفقراء؛ قال الصفدي:
"فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء، واستعد الناس جميعاً،
وأكثروا من الصدقات، وتحللوا وأقبلوا على العبادة"().
وشعراً وصف ابن الوردي حال الخوف والقلق
والتشتت الذي أصاب الناس، فقال:
فهذا يُوصِي
بأوْلادِه وهذا يُودِّعُ إخـوانَه
وهذا يُهيئُ
أشْـغَالَه وهذا يُجـهِّزُ أكفانَه
وهذا يُصالحُ
أعْداءَه وهذا يُلاطِفُ جِيرانَه()
وإذا نظرنا إلى لغة الأبيات، فلتكرار اسم
الإشارة(هذا) في أول كل شطر من الأبيات، ثم ضمير الغائب(الهاء) آخره في إشارة
إليه، دلالة مؤكدة على التشتت والحيرة والقلق الذي أصاب الناس، ثم يأتي الفعل
المضارع بعد كل اسم إشارة في الأبيات ليؤكد معنى استمرار الحال.
أما
عن أعراض الطاعون، ومراحل تطوره، فقد توقف المؤرخون والشعراء
عندها كثيراً. فقالوا: كان يخرج خلف أذن الإنسان بثرة؛ فيَخِرّ صريعا، ثم صار يخرج
للإنسان كبَّة تحت إبطه؛ فيموت أيضا سريعا، وهذه الأعراض وجدت في الأسماك
والحيوانات والطيور التي كانوا يجدونها ميتة في هذا الوباء، وأشد مراحله
عندما" يحسّ الإنسان في نَفَسه بحرارة، ويجد غثيانا، فيبصق دما ويموت
عُقيبه"([12])
شعراً وصف
ذلك الصلاح الصفدي فقال():
تَعجَّبتُ مِن طاعون جِلِّق إذ غدا وما فاتتِ الآذانَ وقعةُ طَـعْنهِ
فكـمْ مـؤمنٍ تلقاه أذعنَ طـائعاً على أنَّه قد ماتَ مِن خَلْفِ أذنهِ
(جِلِّق:
اسم دمشق).
وقال:
رَعَى الرحمنُ دهراً قد تَولَّى يُجازِي بالسَّلامةِ كُلَّ شَرْطِ
وكانَ الناسُ في غَفَلاتِ أمْرٍ فَجَا طَاعونُهم مِن تحتِ إبطِ
فالأبيات
تشير إلى غفلة الناس عن هذا الوباء، فنرى فيها ملامح الاغتيال الجماعي، فهو يطعن
خلف الأذن، أو يأتي من تحت إبط، ولا يفرق في طعناته بين طائع وعاصٍ.
وفي الأبيات التالية استشرى الطاعون وتجبَّر؛ فصار
يواجه الناس صباحاً ومساءً.
يا رحمتا لِدمشق مِنْ طاعُونِها فالكلُّ مُغْتَبِقٌ به أو مُصْطِبحْ
كَمْ هَالِكٍ نَفثَ الدَّمَا مِـنْ حَلْقهِ أوَمَا تراهُ بغيرِ سِـكِّينٍ ذُبِحْ
وقال:
حَلَبٌ- واللهُ يكْفِـي شَرَّها-أرضُ مَشَقَّهْ
أصبحتْ حَيَّةَ سُوءٍ تَقتُلُ النّاسَ بِبَزْقَهْ
فالأبيات
السابقة تبين مراحل تطور الوباء على الترتيب: ففي أول أمره يخرج خلف أذن الإنسان
ما يشبه البثرة (قد ماتَ مِن خَلْفِ أذنهِ)، ثم صار يخرج
للإنسان كبَّة تحت إبطه(فَجَا طَاعونُهم مِن تحتِ إبطِ)، وأشد مراحله عندما يشعر
الإنسان بحرارة وغثيان فيبصق دماً ويموت(كَمْ هَالِكٍ نَفثَ الدَّمَا مِنْ حَلْقهِ
- تَقتُلُ النّاسَ بِبَزْقَهْ).
وهناك
مجموعة أخرى من الشعر الموثِق لوباء(سنة 749هـ) وهي أبيات متقاربة المعاني والصور،
غير بعيدة في دلالتها عن الأبيات السابقة. منها:
قول الشيخ بدر
الدين حسن بن حبيب الحلبي:
()
إنَّ هذا
الطاعونَ يفتِكُ في العا لمِ فَتك
امرئ ظلُومٍ حَسـودِ
ويطوفُ
البلادَ شَرقا وغـرباً ويسوقُ
الخُلُوقَ نحوَ
اللحُودِ()
(الخُلُوق:
جَمِيعَ الخَلْق)
وقول الصلاح
الصفدي:
لمَّا افترسْتَ أصْحَابي يا عامَ تسع وأربعينا
ما كنتَ واللهِ تِسـعاً بلْ كنتَ سَبعاً يَقينا()
وقول ابن الوردي:
أصــلحَ اللهُ دِمشْقا وحَمَاها عن مَسبَّهْ
نَفسُها خَسَّتْ إلى أنْ تُقتل النَّفس بحبَّهْ
وفيها قال
جمال الدين إبراهيم المعمار():
قُبِّحَ الطاعونُ
داءً فُقِدتْ فيه الأحِبَّهْ
بِيعتْ الأنفس
فيه كلُّ إنسانٍ بحبَّهْ()
وقال ابن نباتة المصري فيه():
سِرْ بنا عن
دمشقٍ يا طالبَ العيـ ـشِ فما
للمُقام للمرءِ رَغْبهْ
رخُصتْ
أنفــسُ الخلائق بالطا عون فيها
فكُلُّ نفسٍ بحبَّهْ ()
وقال:
عُجْ عن
العُجْبِ فهذِى جِلِّقٌ أصبَحتْ منه
على حالٍ ذَميمْ
لم تزلْ
بالعُجْبِ حتى ضَرَبَتْ نَفسَها منه
بطاعُونٍ عَظيمْ ()
والشعر كثير، والأخبار أكثر، كلها تشير
إلى دلالة واحدة، وهي دلالة الموت وكثرته في الخلائق.